الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ذِكْرُهُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ- بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذْهَبَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ دُونَ سَائِرِ أَعْضَاءِ أَجْسَامِهِمْ- لِلَّذِي جَرَى مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْآيَتَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ}، وَقَوْلَهُ: " يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ "، فَجَرَى ذِكْرُهَا فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ. ثُمَّ عَقَّبَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذِكْرَ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذْهَبَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَعِيدًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، كَمَا تَوَعَّدَهُمْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}، وَاصِفًا بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ نَفْسَهُ، أَنَّهُ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمْعِهِمْ، لِإِحْلَالِ سَخَطِهِ بِهِمْ، وَإِنْزَالِ نِقْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمُحَذِّرَهُمْ بِذَلِكَ سَطْوَتَهُ، وَمُخَوِّفَهُمْ بِهِ عُقُوبَتَهُ، لِيَتَّقُوا بَأْسَهُ، وَيُسَارِعُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ حَبِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}، لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ. وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ- يَعْنِي قَالَ اللَّهُ- فِي أَسْمَاعِهِمْ، يَعْنِي أَسْمَاعَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَبْصَارَهُمُ الَّتِي عَاشُوا بِهَا فِي النَّاسِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}، لِأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ. وَلَكِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَدْخَلُوا الْبَاءَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالُوا: ذَهَبْتُ بِبَصَرِهِ، وَإِذَا حَذَفُوا الْبَاءَ قَالُوا: أَذْهَبْتُ بَصَرَهُ. كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 62]، وَلَوْ أُدْخِلَتِ الْبَاءُ فِي الْغَدَاءِ لَقِيلَ: ائْتِنَا بِغَدَائِنَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} فَوَحَّدَ، وَقَالَ: " وَأَبْصَارِهِمْ " فَجَمَعَ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْخَبَرَ فِي السَّمْعِ خَبَرٌ عَنْ سَمْعِ جَمَاعَةٍ، كَمَا الْخَبَرُ عَنِ الْأَبْصَارِ خَبَرٌ عَنْ أَبْصَارِ جَمَاعَةٍ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْمَصْدَرَ وَقَصَدَ بِهِ الْخَرْقَ، وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْأَعْيُنَ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ: أَنَّ السَّمْعَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ. وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 43]، يُرِيدُ: لَا تَرْتَدُ إِلَيْهِمْ أَطْرَافُهُمْ، وَبُقَوْلِهِ: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [سُورَةُ الْقَمَرِ: 45]، يُرَادُ بِهِ أَدْبَارُهُمْ. وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ عِنْدِي، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ، فَكَانَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَأَدَاءِ مَعْنَى الْوَاحِدِ مِنَ السَّمْعِ عَنْ مَعْنَى جَمَاعَةٍ، مُغْنِيًا عَنْ جِمَاعِهِ. وَلَوْ فِعْلَ بِالْبَصَرِ نَظِيرَ الَّذِي فَعَلَ بِالسَّمْعِ، أَوْ فَعَلَ بِالسَّمْعِ نَظِيرَ الَّذِي فَعَلَ بِالْأَبْصَارِ- مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ- كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا *** فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ فَوَحَّدَ الْبَطْنَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبُطُونُ، لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا وَصْفَ اللَّهُ نَفْسَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهِمْ مُحِيطٌ، وَعَلَى إِذْهَابِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَدِيرٌ. ثُمَّ قَالَ: فَاتَّقُونِي أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، وَاحْذَرُوا خِدَاعِي وَخِدَاعَ رَسُولِي وَأَهْلِ الْإِيمَانِ بِي، لَا أُحِلْ بِكُمْ نِقْمَتِي، فَإِنِّي عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ قَدِيرٌ. وَمَعْنَى "قَدِير" قَادِرٌ، كَمَا مَعْنَى "عَلِيم" عَالَمٌ، عَلَى مَا وَصَفْتُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَائِرِهِ، مِنْ زِيَادَةِ مَعْنَى فَعِيلٍ عَلَى فَاعِلٍ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمْرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْفَرِيقَيْنِ- اللَّذَيْنِ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأُنْذَرُوا أَمْ لَمْ يُنْذَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لِطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَعَنِ الْآخَرِ أَنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يُبْدِي بِلِسَانِهِ مِنْ قِيلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، مَعَ اسْتِبْطَانِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمَرَضِ قَلْبِهِ، وَشَكِّهِ فِي حَقِيقَةِ مَا يُبْدِي مِنْ ذَلِكَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ الْمُكَلَّفِينَ- بِالِاسْتِكَانَةِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَإِفْرَادِ الرُّبُوبِيَّةِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ دُونَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ. لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ هُوَ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ، وَخَالِقُ أَصْنَامِهِمْ وَأَوْثَانِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَالَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادَكُمْ وَسَائِرَ الْخَلْقِ غَيْرَكُمْ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ضُرِّكُمْ وَنَفْعِكُمْ- أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِيمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ، يَقُولُ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَعْنَى {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}: وَحِّدُوا رَبَّكُمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا- فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا- عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ: الْخُضُوعُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ بِالِاسْتِكَانَةِ. وَالَّذِي أَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- بِقَوْلِهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وَحِّدُوهُ، أَيْ أَفْرِدُوا الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ لِرَبِّكُمْ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، أَيْ وَحِّدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَقُولُ: خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ، إِلَّا بَعْدَ إِعْطَاءِ اللَّهِ الْمُكَلَّفَ الْمَعُونَةَ عَلَى مَا كَلَّفَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مَنْ وَصَفْنَا، بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِ، بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِعِبَادَتِكُمْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَإِفْرَادِكُمْ لَهُ الْعِبَادَةَ لِتَتَّقُوا سَخَطَهُ وَغَضَبَهُ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ رَبَّهُمْ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: تُطِيعُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُطِيعُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا: لَعَلَّكُمْ أَنْ تَتَّقُوا رَبَّكُمْ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ، وَإِقْلَاعِكُمْ عَنْ ضَلَالَتِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَكَيْفَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؟ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ إِذَا هُمْ عَبَدُوهُ وَأَطَاعُوهُ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَنْ تَتَّقُوا، فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ عَنْ عَاقِبَةِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ مَخْرَجَ الشَّكِّ؟ قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي تَوَهَّمْتَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، لِتَتَّقُوهُ بِطَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ، لَعَلَّنَا *** نَكُفُّ! وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ *** كَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الْفَلَا مُتَأَلِّقِ يُرِيدُ بِذَلِكَ: قُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا لِنَكُفَّ. وَذَلِكَ أَنَّ "لَعَل" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ كَانَ شَكًّا، لَمْ يَكُونُوا وَثِقُوا لَهُمْ كُلَّ مَوْثِقٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}. وَقَوْلُهُ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} مَرْدُودٌ عَلَى" الَّذِي "الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ نَعْت" رَبَّكُمُ "، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الْخَالِقَكُمْ، وَالْخَالِقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، الْجَاعِلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا. يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا مُوَطَّأً وَقَرَارًا يُسْتَقَرُّ عَلَيْهَا. يُذَكِّرُ رَبُّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ- بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ- عِبَادَهُ نِعَمَهُ عِنْدَهُمْ وَآلَاءَهُ لَدَيْهِمْ لِيَذْكُرُوا أَيَادِيَهُ عِنْدَهُمْ، فَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ- تَعَطُّفًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَرَأْفَةً مِنْهُ بِهِمْ، وَرَحْمَةً لَهُمْ، مِنْ غَيْرِ مَا حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، وَلَكِنْ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} فَهِيَ فَرَاشٌ يُمْشَى عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمِهَادُ وَالْقَرَارُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}، قَالَ: مِهَادًا لَكُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}، أَيْ مِهَادًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ السَّمَاءُ سَمَاءً لِعُلُوِّهَا عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى سُكَّانِهَا مِنْ خَلْقِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ فَوْقَ شَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ لِمَا تَحْتَهُ سَمَاءٌ. وَلِذَلِكَ قِيلَ لِسَقْفِ الْبَيْتِ: سَمَاوَةٌ، لِأَنَّهُ فَوْقَهُ مُرْتَفِعٌ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: سَمَا فَلَانٌ لِفُلَانٍ، إِذَا أَشْرَفَ لَهُ وَقَصَدَ نَحْوَهُ عَالِيًا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: سَمَوْنَا لِنَجْرَانَ الْيَمَانِي وَأَهْلِهِ *** وَنَجْرَانُ أَرْضٌ لَمْ تُدَيَّثْ مَقَاوِلُهْ وَكَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ: سَمَتْ لِي نَظْرَةٌ، فَرَأَيتُ مِنْهَا *** تُحَيْتَ الْخِدْرِ وَاضِعَةَ الْقِرَامِ يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَشْرَفَتْ لِي نَظْرَةٌ وَبَدَتْ، فَكَذَلِكَ السَّمَاءُ سُمِّيَتْ لِلْأَرْضِ: سَمَاءً، لِعُلُوِّهَا وَإِشْرَافِهَا عَلَيْهَا. كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، فَبِنَاءُ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الْقُبَّةِ، وَهِيَ سَقْفٌ عَلَى الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}، قَالَ: جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا لَكَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فِيمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مِنْهُمَا أَقْوَاتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ وَمَعَايِشَهُمْ، وَبِهِمَا قِوَامُ دُنْيَاهُمْ. فَأَعْلَمُهُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمَا وَخَلْقَ جَمِيعَ مَا فِيهِمَا وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ، هُوَ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِمُ الطَّاعَةَ، وَالْمُسْتَوْجِبُ مِنْهُمُ الشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ، دُونَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا، فَأَخْرُجُ بِذَلِكَ الْمَطَرِ مِمَّا أَنْبَتُوهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ زَرْعِهِمْ وَغَرْسِهِمْ ثَمَرَاتٍ- رِزْقًا لَهُمْ، غِذَاءً وَأَقْوَاتًا. فَنَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِهِ آلَاءَهُ لَدَيْهِمْ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ وَيَكْفُلُهُمْ، دُونَ مَنْ جَعَلُوهُ لَهُ نِدًّا وَعِدْلًا مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْآلِهَةِ. ثُمَّ زَجَرَهُمْ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُ نِدًّا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ وَلَا عَدْلَ، وَلَا لَهُمْ نَافِعٌ وَلَا ضَارٌّ وَلَا خَالِقٌ وَلَا رَازِقٌ سِوَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْأَنْدَادُ جَمْعُ نِدٍّ، وَالنِّدُّ: الْعَدْلُ وَالْمِثْلُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ؟ *** فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " وَلَسْتَ لَهُ بَنْدٍّ "، لَسْتَ لَهُ بِمِثْلٍ وَلَا عَدْلٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ نَظِيرًا لِشَيْءٍ وَلَهُ شَبِيهًا فَهُوَ لَهُ نِدٌّ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، أَيْ عُدَلَاءَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، أَيْ عُدَلَاءَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، قَالَ: أَكْفَاءً مِنَ الرِّجَالِ تُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، قَالَ: الْأَنْدَادُ: الْآلِهَةُ الَّتِي جَعَلُوهَا مَعَهُ، وَجَعَلُوا لَهَا مِثْلَ مَا جَعَلُوا لَهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، قَالَ: أَشْبَاهًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، أَنْ تَقُولُوا: لَوْلَا كَلْبُنَا لَدَخَلَ عَلَيْنَا اللِّصُّ الدَّارَ، لَوْلَا كَلْبُنَا صَاحَ فِي الدَّارِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، أَوْ يَتَّخِذُوا لَهُ نِدًّا وَعَدْلًا فِي الطَّاعَةِ، فَقَالَ: كَمَا لَا شَرِيكَ لِي فِي خَلْقِكُمْ، وَفِي رِزْقِكُمُ الَّذِي أُرْزَقُكُمْ وَمِلْكِي إِيَّاكُمْ، وَنِعَمِي الَّتِي أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ- فَكَذَلِكَ فَأَفْرِدُوا لِيَ الطَّاعَةَ، وَأَخْلِصُوا لِيَ الْعِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا لِي شَرِيكًا وَنِدًّا مِنْ خَلْقِي، فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ عَلَيْكُمْ فَمِنِّي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ، أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهَا جَمِيعَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَ ذَلِكَ فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يُرْزَقُكُمْ غَيْرَهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلْقَكُمْ وَخَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، يَقُولُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِي دَعَا مُجَاهِدًا إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ دُونَ غَيْرِهِمْ- الظَّنُّ مِنْهُ بِالْعَرَبِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا وَرَازِقُهَا، بِجُحُودِهَا وَحْدَانِيَّةَ رَبِّهَا، وَإِشْرَاكِهَا مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ. وَإِنَّ ذَلِكَ لَقَوْلٌ! وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ تُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ مَا كَانَتْ تُشْرِكُ فِيهَا، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 87]، وَقَالَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [سُورَةُ يُونُسَ: 31]. فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}- إِذْ كَانَ مَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُبْدِعُ الْخَلْقِ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، نَظِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنَي بِقَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَحَدَ الْحِزْبَيْنِ، بَلْ مَخْرَجُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً لَهُمْ، لِأَنَّهُ تَحَدَّى النَّاسَ كُلَّهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}- أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، مِنْ أَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ كُلَّ مُكَلِّفٍ، عَالِمٍ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خُلُقِهِ، يُشْرِكُ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ، عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ أَعْجَمِيًّا، كَاتِبًا أَوْ أُمِّيًّا، وَإِنْ كَانَ الْخُطَّابُ لِكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيْ دَارِ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْهُمْ، وَمِمَّنْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ مِمَّنْ كَانَ مُشْرِكًا فَانْتَقَلَ إِلَى النِّفَاقِ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ احْتِجَاجٌ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنَ الْعَرَبِ وَمُنَافِقِيهِمْ، وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَضُلَّالِهِمُ الَّذِينَ افْتَتَحَ بِقِصَصِهِمْ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}، وَإِيَّاهُمْ يُخَاطِبُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَضُرَبَاءَهُمْ يَعْنِي بِهَا، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، فِي شَكٍّ- وَهُوَ الرَّيْبُ- مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ وَآيَاتِ الْفُرْقَانِ: أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، وَأَنِّي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوهُ فِيمَا يَقُولُ، فَأْتُوْا بِحُجَّةٍ تَدْفَعُ حُجَّتَهُ، لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حُجَّةَ كُلِّ ذِي نُبُوَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ: أَنْ يَأْتِيَ بِبُرْهَانٍ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. وَمِنْ حُجَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِدْقِهِ، وَبُرْهَانِهِ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِي- عَجْزُ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ مَنْ تَسْتَعِينُونَ بِهِ مِنْ أَعْوَانِكُمْ وَأَنْصَارِكُمْ، عَنْ أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وَإِذَا عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ- وَأَنْتُمْ أَهْلُ الْبَرَاعَةِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالذَّرَابَةِ- فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ غَيْرَكُمْ عَمَّا عَجَزْتُمْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْجَزُ. كَمَا كَانَ بُرْهَانُ مَنْ سَلَفَ مِنْ رُسُلِي وَأَنْبِيَائِي عَلَى صِدْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنَ الْآيَاتِ، مَا يَعْجِزُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ جَمِيعُ خَلْقِي. فَيَتَقَرَّرُ حِينَئِذٍ عِنْدَكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَقَوَّلْهُ وَلَمْ يَخْتَلِقْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْهُ اخْتِلَافًا وَتَقَوُّلًا لَمْ تَعْجِزُوا وَجَمِيعُ خَلْقِي عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْدُ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَفِي مِثْلِ حَالِكُمْ فِي الْجِسْمِ وَبَسْطَةِ الْخَلْقِ وَذَرَابَةِ اللِّسَانِ- فَيُمْكِنُ أَنْ يُظَنُّ بِهِ اقْتِدَارٌ عَلَى مَا عَجَزْتُمْ عَنْهُ، أَوْ يُتَوَهَّمُ مِنْكُمْ عَجْزٌ عَمَّا اقْتَدَرَ عَلَيْهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. فَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، يَعْنِي: مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ حَقًّا وَصِدْقًا، لَا بَاطِلَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، يَقُولُ: بِسُورَةٍ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، مِثْلِ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، قَالَ: "مِثْلِه" مِثْلِ الْقُرْآنِ. فَمَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا عَنْهُمَا: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَالَ لِمَنْ حَاجَّهُ فِي نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ: فَأَتَوْا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِكُمْ أَيَّتُهَا الْعَرَبُ، كَمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ بِلُغَاتِكُمْ وَمَعَانِي مَنْطِقِكُمْ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ، الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [سُورَةُ يُونُسَ: 38]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ لِمُحَمَّدٍ بِنَظِيرٍ وَلَا شَبِيهٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلَ مُحَمَّدٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ اللَّهَ عَنَى بِقَوْلِهِ "، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}، مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، فَهَلْ لِلْقُرْآنِ مِنْ مِثْلٍ فَيُقَالُ: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؟ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مَثْلِهِ فِي التَّأْلِيفِ وَالْمَعَانِي الَّتِي بَايَنَ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا عَنَى: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْبَيَانِ، لِأَنَّالْقُرْآنَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ، فَكَلَامُ الْعَرَبِ لَا شَكَّ لَهُ مِثْلٌ فِي مَعْنَى الْعَرَبِيَّةِ. فَأَمَّا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بَايَنَ بِهِ الْقُرْآنُ سَائِرَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، فَلَا مِثْلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَا نَظِيرَ وَلَا شَبِيهَ. وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا احْتَجَّ بِهِ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذْ ظَهَرَ عَجْزُ الْقَوْمِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْبَيَانِ، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ بَيَانًا مِثْلَ بَيَانِهِمْ، وَكَلَامًا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ أَنَّ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى عَبْدِي مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِي، فَأْتُوْا بِسُورَةٍ مِنْ كَلَامِكُمُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ كُنْتُمْ عَرَبًا، وَهُوَ بَيَانٌ نَظِيرُ بَيَانِكُمْ، وَكَلَامٌ شَبِيهُ كَلَامِكُمْ. فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ غَيْرِ اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَيَقْدِرُوا أَنْ يَقُولُوا: كَلَّفَتْنَا مَا لَوْ أَحْسَنَّاهُ أَتَيْنَا بِهِ، وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ لِأَنَّا لَسْنَا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي كَلَّفْتَنَا الْإِتْيَانَ بِهِ، فَلَيْسَ لَكَ عَلَيْنَا بِهَذَا حُجَّةٌ. لِأَنَّا- وَإِنْ عَجْزَنَا عَنْ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَلْسِنَتِنَا لِأَنَّا لَسْنَا مِنْ أَهْلِهِ- فَفِي النَّاسِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ لِسَانِنَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ مِنَ اللِّسَانِ الَّذِي كَلَّفْتَنَا الْإِتْيَانَ بِهِ. وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لَهُمُ: ائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، لِأَنَّ مَثْلَهُ مِنَ الْأَلْسُنِ أَلِسِنَكُمْ، وَأَنْتُمْ- إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ، إِذَا اجْتَمَعْتُمْ وَتَظَاهَرْتُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ مِنْ لِسَانِكُمْ وَبَيَانِكُمْ- أَقْدَرُ عَلَى اخْتِلَاقِهِ وَرَصْفِهِ وَتَأْلِيفِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أَقْدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَلَنْ تَعْجِزُوا- وَأَنْتُمْ جَمِيعٌ- عَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ وَحِيدٌ، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِي.
وَاخْتَلَفَ أَهْل ُالتَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يَعْنِي أَعْوَانَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ}، نَاسٌ يَشْهَدُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَوَّمٌ يَشْهَدُونَ لَكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ}، قَالَ: نَاسٌ يَشْهَدُونَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "شُهَدَاءَكُم" عَلَيْهَا إِذَا أَتَيْتُمْ بِهَا- أَنَّهَا مَثْلُهُ، مِثْلُ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ لِمَنْ شَكَّ مِنَ الْكَفَّارِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ " فَادْعُوا "، يَعْنِي: اسْتُنْصِرُوا وَاسْتُغِيثُوا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ *** دَعَوْا: يَا لَكَعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " دَعَوْا يَا لَكَعْبٍ "، اسْتَنْصَرُوا كَعْبًا وَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ. وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ، فَإِنَّهَا جَمْعُ شَهِيدٍ، كَمَا الشُّرَكَاءُ جَمْعُ شَرِيكٍ، وَالْخُطَبَاءُ جَمْعُ خَطِيبٍ. وَالشَّهِيدُ يُسَمَّى بِهِ الشَّاهِدُ عَلَى الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ بِمَا يُحَقِّقُ دَعْوَاهُ. وَقَدْ يُسَمَّى بِهِ الْمُشَاهِدُ لِلشَّيْءِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَلِيسُ فُلَانٍ- يَعْنِي بِهِ مُجَالِسَهُ، وَنَدِيمَهُ- يَعْنِي بِهِ مُنَادِمَهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: شَهِيدُهُ- يَعْنِي بِهِ مُشَاهِدَهُ. فَإِذَا كَانَتْ "الشُّهَدَاء" مُحْتَمِلَةً أَنْ تَكُونَ جَمْعَ "الشَّهِيد" الَّذِي هُوَ مُنْصَرِفٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، فَأَوْلَى وَجْهَيْهِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَاسْتَنْصِرُوا عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَعْوَانَكُمْ وَشُهَدَاءَكُمَ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَكُمْ وَيُعَاوِنُونَكُمْ عَلَى تَكْذِيبِكُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُظَاهِرُونَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَنِفَاقِكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي جُحُودِكُمْ أَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلَاقٌ وَافْتِرَاءٌ، لِتَمْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ: هَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَيَقْدِرَ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ اخْتِلَاقًا؟ وَأَمَّا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لَهُ. لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً: أَهْلَ إِيمَانٍ صَحِيحٍ، وَأَهْلَ كُفْرٍ صَحِيحٍ، وَأَهْلَ نِفَاقٍ بَيْنَ ذَلِكَ. فَأَهْلُ الْإِيمَانِ كَانُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَدَّعِيَ الْكُفَّارُ أَنَّ لَهُمْ شُهَدَاءَ- عَلَى حَقِيقَةِ مَا كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ، لَوْ أَتَوْا بِاخْتِلَاقٍ مِنَ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ نَظِيرٌ- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى تَحْقِيقِ الْبَاطِلِ وَإِبْطَالِ الْحَقِّ لَتَتَارَعُوا إِلَيْهِ مَعَ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَمِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَتْ تَكُونُ شُهَدَاؤُهُمْ لَوِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ؟ وَلَكِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 88]، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّمِثْلَ الْقُرْآنِ لَا يَأْتِي بِهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ، وَتَحَدَّاهُمْ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يَعْنِي بِذَلِكَ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، فَأَتَوْا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلِيَسْتَنْصِرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ، حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِذْ عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ- أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِنَ الْبَشَرِ أَحَدٌ، وَيَصِحَّ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي إِلَى عَبْدِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا}، إِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَدْ تَظَاهَرْتُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ عَلَيْهِ وَأَعْوَانُكُمْ، فَتَبَيَّنَ لَكُمْ بِامْتِحَانِكُمْ وَاخْتِبَارِكُمْ عَجْزُكُمْ وَعَجْزُ جَمِيعِ خَلْقِي عَنْهُ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي، ثُمَّ أَقَمْتُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}، أَيْ لَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَبَدًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}، أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُطِيقُونَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}، فَقْدْ بَيْنَ لَكُمُ الْحَقَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ {فَاتَّقُوا النَّارَ}، يَقُولُ: فَاتَّقُوا أَنْ تَصْلَوُا النَّارَ بِتَكْذِيبِكُمْ رَسُولِي بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ وَحْيِي وَتَنْزِيلِي، بَعْدَ تَبَيُّنِكُمْ أَنَّهُ كِتَابِي وَمِنْ عِنْدِي، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ كَلَامِي وَوَحْيِي، بِعَجْزِكُمْ وَعَجْزِ جَمِيعِ خَلْقِي عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ. ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ النَّارَ الَّتِي حَذَّرَهُمْ صِلِيَّهَا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النَّاسَ وَقُودُهَا، وَأَنَّ الْحِجَارَةَ وَقُودُهَا، فَقَالَ: {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "وَقُودُهَا" حَطَبُهَا، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُهُ مَصْدَرًا وَهُوَ اسْمٌ، إِذَا فُتِحَتِ الْوَاوُ، بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ. فَإِذَا ضُمَّتِ الْوَاوُ مِنْ "الْوَقُود" كَانَ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَقَدَتِ النَّارُ فَهِيَ تَقِدُ وَقُودًا وَقِدَةً وَوَقَدَانًا وَوَقْدًا، يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهَا الْتَهَبَتْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ خُصَّتَ الْحِجَارَةُ فَقُرِنَتْ بِالنَّاسِ، حَتَّى جُعِلَتْ لِنَارِ جَهَنَّمَ حَطَبًا؟ قِيلَ: إِنَّهَا حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، وَهِيَ أَشَدُّ الْحِجَارَةِ- فِيمَا بَلَغَنَا- حَرًّا إِذَا أُحْمِيَتْ. كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الزَّرَّادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، قَالَ: هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ، خَلَقَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يُعِدُّهَا لِلْكَافِرِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الزَّرَّادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، قَالَ: حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، جَعَلَهَا اللَّهُ كَمَا شَاءَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتَّقَوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، أَمَّا الْحِجَارَةُ، فَهِيَ حِجَارَةٌ فِي النَّارِ مِنْ كَبْرِيتٍ أَسْوَدَ، يُعَذِّبُونَ بِهِ مَعَ النَّارِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، قَالَ: حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ فِي النَّارِ، قَالَ: وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: حِجَارَةٌ أَصْلَبُ مِنْ هَذِهِ وَأَعْظَمُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: حِجَارَةٌ مِنَ الْكِبْرِيتِ خَلَقَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}. قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، عَلَى أَنَّ "الْكَافِر" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، هُوَ السَّاتِرُ شَيْئًا بِغِطَاءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا سَمَّى الْكَافِرَ كَافِرًا، لِجُحُودِهِ آلَاءَهُ عِنْدَهُ، وَتَغْطِيَتِهِ نَعْمَاءَهُ قِبَلَهُ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، أَعَدَّتْ النَّارُ لِلْجَاحِدِينَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمُ الْمُتَوَحِّدُ بِخَلْقِهِمْ وَخَلْقِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، الَّذِي جَعَلَ لَهُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَهُمْ- الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ، وَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ لَهُمْ بِالْإِنْشَاءِ، وَالْمُتَوَحِّدُ بِالْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أُمًّا قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَبَشِّرْ "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَخْبِرْهُمْ. وَالْبِشَارَةُ أَصْلُهَا الْخَبَرُ بِمَا يُسَرُّ بِهِ الْمُخْبَرُ، إِذَا كَانَ سَابِقًا بِهِ كُلَّ مُخْبِرٍ سِوَاهُ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْلَاغِ بِشَارَتِهِ خَلْقَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَصَدَقُوا إِيمَانَهُمْ ذَلِكَ وَإِقْرَارَهُمْ بِأَعْمَالِهِمَ الصَّالِحَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، بَشِّرْ مَنْ صَدَّقَكَ أَنَّكَ رَسُولِي- وَأَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ فَمِنْ عِنْدِي، وَحَقِّقْ تَصْدِيقَهُ ذَلِكَ قَوْلًا بِأَدَاءِ الصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي افْتَرَضْتُهَا عَلَيْهِ، وَأَوْجَبْتُهَا فِي كِتَابِي عَلَى لِسَانِكَ عَلَيْهِ- أَنَّ لَهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، خَاصَّةً، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِكَ وَأَنْكَرَ مَا جِئْتَهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى مِنْ عِنْدِي وَعَانَدَكَ، وَدُونَ مَنْ أَظْهَرَ تَصْدِيقَكَ، وَأَقَرَّ أَنَّ مَا جِئْتَهُ بِهِ فَمِنْ عِنْدِي قَوْلًا وَجَحَدَهُ اعْتِقَادًا، وَلَمْ يُحَقِّقْهُ عَمَلًا. فَإِنَّ لِأُولَئِكَ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، مُعَدَّةً عِنْدِي. وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وَالْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ. وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ: مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا وَغُرُوسِهَا، دُونَ أَرْضِهَا- وَلِذَلِكَ قَالَ عِزَّ ذِكْرُهُ ": {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَبَرَ عَنْ مَاءِ أَنْهَارِهَا أَنَّهُ جَارٍ تَحْتَ أَشْجَارِهَا وَغُرُوسِهَا وَثِمَارِهَا، لَا أَنَّهُ جَارٍ تَحْتَ أَرْضِهَا. لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا كَانَ جَارِيًا تَحْتَ الْأَرْضِ، فَلَا حَظَّ فِيهَا لِعُيُونٍ مِنْ فَوْقِهَا إِلَّا بِكَشْفِ السَّاتِرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ. عَلَى أَنَّ الَّذِي تُوصَفُ بِهِ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، أَنَّهَا جَارِيَةٌ فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ. كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ نَضِيدٌ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ، كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَاؤُهَا يَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ. حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ [بْنُ مُوسَى]، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كَدَامٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، بِنَحْوِهِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَسْرُوقٌ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فِي أَنَّ أَنْهَارَهَا جَارِيَةٌ فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْجَنَّاتِ: أَشْجَارُ الْجَنَّاتِ وَغُرُوسِهَا وَثِمَارُهَا دُونَ أَرْضِهَا، إِذْ كَانَتْ أَنْهَارُهَا تَجْرِي فَوْقَ أَرْضِهَا وَتَحْتَ غُرُوسِهَا وَأَشْجَارِهَا، عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَسْرُوقٌ. وَذَلِكَ أَوْلَى بِصِفَةِ الْجَنَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَنْهَارُهَا جَارِيَةً تَحْتَ أَرْضِهَا. وَإِنَّمَا رَغَّبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِبَادَهُ فِي الْإِيمَانِ، وَحَضَّهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِ بِمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَعَدَّهُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ عِنْدَهُ، كَمَا حَذَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إِعْدَادِهِ مَا أَعَدَّ- لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، الْجَاعِلِينَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ- مِنْ عِقَابِهِ عَنْ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالتَّعَرُّضِ لِعُقُوبَتِهِ بِرُكُوبِ مَعْصِيَتِهِ وَتَرْكِ طَاعَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا}: مِنَ الْجَنَّاتِ، وَالْهَاءِ رَاجِعَةٌ عَلَى الْجَنَّاتِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ أَشْجَارُهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا رُزِقُوا- مِنْ أَشْجَارِ الْبَسَاتِينِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِهِ- مِنْ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِهَا رِزْقًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلِ هَذَا فِي الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، قَالَ: إِنَّهُمْ أُتُوا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، أَيْ فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُونَ: مَا أَشْبَهَهُ بِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، فِي الدُّنْيَا، قَالَ: " وَأُتُوْا بِهِ مُتَشَابِهًا "، يَعْرِفُونَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا، لِشَدَّةِ مُشَابِهَةِ بَعْضِ ذَلِكَ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ بَعْضًا. وَمِنْ عِلَّةِ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ ثِمَارَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا نُزِعَ مِنْهَا شَيْءٌ عَادَ مَكَانَهُ آخَرٌ مِثْلُهُ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مُرَّةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ نَضِيدٌ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا، وَثَمَرُهَا مِثْلُ الْقِلَالِ، كُلَّمَا نُزِعَتْ مِنْهَا ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى. قَالُوا: فَإِنَّمَا اشْتَبَهَتْ عِنْدَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الَّتِي عَادَتْ، نَظِيرَةُ الَّتِي نُزِعَتْ فَأُكِلَتْ، فِي كُلِّ مَعَانِيهَا. قَالُوا: وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، لِاشْتِبَاهِ جَمِيعِهِ فِي كُلِّ مَعَانِيهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَالُوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، لِمُشَابَهَتِهِ الَّذِي قَبْلَهُ فِي اللَّوْنِ، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الطَّعْمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنَ الْمَصِيصَةِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِأُخْرَى فَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ مِنْ قَبْلُ. فَيَقُولُ الْمَلِكُ: كُلْ، فَاللَّوْنُ وَاحِدٌ وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَذْهَبُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ. غَيْرَ أَنَّهُ يَدْفَعُ صِحَّتَهُ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَيُحَقِّقُ صِحَّتَهُ، قَوْلُ الْقَائِلِينَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا}، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مِنْ قِيلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ رِزْقًا، أَنْ يَقُولُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. وَلَمْ يُخَصَّصْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ. فَإِذْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلِهِمْ فِي كُلِّ مَا رُزِقُوا مِنْ ثَمَرِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلِهِمْ فِي أَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارِهَا أُتُوا بِهِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِيهَا، الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْهُ عِنْدَهُمْ مِنْ ثِمَارِهَا ثَمَرَةٌ. فَإِذْ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلِهِمْ فِي أَوَّلِهِ، كَمَا هُوَ مِنْ قَيْلِهِمْ فِي أَوْسَطِهِ وَمَا يَتْلُوهُ- فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِيْلِهِمْ لِأَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلِ هَذَا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ! وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولُوا لِأَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارِهَا وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ: هَذَا هُوَ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؟ إِلَّا أَنْ يَنْسُبَهُمْ ذُو غَيَّةٍ وَضَلَالٍ إِلَى قِيلِ الْكَذِبِ الَّذِي قَدْ طَهَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، أَوْ يَدْفَعَ دَافِعٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَيْلِهِمْ لِأَوَّلِ رِزْقٍ رُزِقُوهُ مِنْهَا مِنْ ثِمَارِهَا، فَيَدْفَعَ صِحَّةَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ صِحَّتَهُ بِقَوْلِهِ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا}، مِنْ غَيْرِ نَصْبٍ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ حَالٌ مِنْ أَحْوَالٍ دُونَ حَالٍ. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلَّمَا رُزِقَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ رِزْقًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلِ هَذَا فِي الدُّنْيَا. فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ، فَقَالَ: وَكَيْفَ قَالَ الْقَوْمُ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَالَّذِي رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ عُدِمَ بِأَكْلِهِمْ إِيَّاهُ؟ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْجَنَّةِ قَوْلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؟ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: هَذَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلِ هَذَا، مِنَ الثِّمَارِ وَالرِّزْقِ. كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِآخَرَ: قَدْ أَعَدَّ لَكَ فُلَانٌ مِنَ الطَّعَامِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَلْوَانِ الطَّبِيخِ وَالشِّوَاءِ وَالْحَلْوَى. فَيَقُولُ الْمَقُولُ لَهُ ذَاكَ: هَذَا طَعَامِي فِي مَنْزِلِي. يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ النَّوْعَ الَّذِي ذَكَرَ لَهُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ أَعَدَّهُ لَهُ مِنَ الطَّعَامِ هُوَ طَعَامُهُ، لَا أَنَّ أَعْيَانَ مَا أَخْبَرَهُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّهُ لَهُ، هُوَ طَعَامُهُ. بَلْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِسَامِعٍ سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ أَرَادَهُ أَوْ قَصَدَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَخْرَجِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ. وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ كَلَامُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إِلَى الْمَعْرُوفِ فِي النَّاسِ مِنْ مَخَارِجِهِ، دُونَ الْمَجْهُولِ مِنْ مَعَانِيهِ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، إِذْ كَانَ مَا كَانُوا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ فَنِيَ وَعُدِمَ. فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِذَلِكَ: هَذَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ جِنْسِهِ فِي السِّمَاتِ وَالْأَلْوَانِ- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} عَائِدَةٌ عَلَى الرِّزْقِ، فَتَأْوِيلُهُ: وَأَتَوْا بِالَّذِي رُزِقُوا مِنْ ثِمَارِهَا مُتَشَابِهًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ "الْمُتَشَابِه" فِي ذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابُهُهُ أَنَّ كُلَّهُ خِيَارٌ لَا رَذْلَ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: "مُتَشَابِهًا" قَالَ: خِيَارًا كُلَّهَا لَا رَذْلَ فِيهَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ: قَرَأَ الْحَسَنُ آيَاتٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى ثِمَارِ الدُّنْيَا كَيْفَ تُرْذِلُونَ بَعْضَهُ؟ وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ رَذْلٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قَالَ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَيْسَ فِيهِ مِنْ رَذْلٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، أَيْ خِيَارًا لَا رَذْلَ فِيهِ، وَإِنَّ ثِمَارَ الدُّنْيَا يُنَقَّى مِنْهَا وَيُرْذَلُ مِنْهَا، وَثِمَارُ الْجَنَّةِ خِيَارٌ كُلُّهُ، لَا يُرْذَلُ مِنْهُ شَيْءٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. قَالَ: ثَمَرُ الدُّنْيَا مِنْهُ مَا يُرْذَلُ، وَمِنْهُ نَقَاوَةٌ، وَثَمَرُ الْجَنَّةِ نَقَاوَةٌ كُلُّهُ، يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الطِّيبِ، لَيْسَ مِنْهُ مَرْذُولٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابُهُهُ فِي اللَّوْنِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا" فِي اللَّوْنِ وَالْمَرْأَى، وَلَيْسَ يُشْبِهُ الطَّعْمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} مِثْلَ الْخِيَارِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} لَوْنُهُ مُخْتَلِفًا طَعْمُهُ، مِثْلَ الْخِيَارِ مِنَ الْقِثَّاءِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَخْتَلِفُ الطَّعْمُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " مُتَشَابِهًا "، قَالَ: مُشْتَبِهًا فِي اللَّوْنِ، وَمُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، مِثْلَ الْخِيَارِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابُهُهُ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: "مُتَشَابِهًا" قَالَ: اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: "مُتَشَابِهًا" قَالَا فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَشَابُهُهُ، تُشَابُهُ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَثَمَرِ الدُّنْيَا فِي اللَّوْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ طَعُومُهُمَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا، غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ أَطْيَبُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: قَالَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُكْمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، قَالَ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا، غَيْرَ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ أَطْيَبُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا الْأَسْمَاءَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَجْعِيُّ- ح- وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْأَشْجَعِيِّ- : لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مَا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا الْأَسْمَاءَ. وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مُؤَمَّلٍ، قَالَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ. حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا الْأَسْمَاءُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، قَالَ: يَعْرِفُونَ أَسْمَاءَهُ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، التُّفَّاحَ بِالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانَ بِالرُّمَّانِ، قَالُوا فِي الْجَنَّةِ: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} فِي الدُّنْيَا {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} يَعْرِفُونَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ فِي الطَّعْمِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا فِي اللَّوْنِ وَالْمَنْظَرِ، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ. يَعْنِي بِذَلِكَ اشْتِبَاهَ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الْمَنْظَرِ وَاللَّوْنِ، مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ وَالذَّوْقِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْعِلَّةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وَأَنَّ مَعْنَاهُ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجِنَانِ مِنْ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِهَا رِزْقًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلِ هَذَا فِي الدُّنْيَا: فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أُتُوا بِمَا أُتُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهًا، يَعْنِي بِذَلِكَ تَشَابُهَ مَا أُتُوا بِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ، وَالَّذِي كَانُوا رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا، فِي اللَّوْنِ وَالْمَرْأَى وَالْمَنْظَرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الطَّعْمِ وَالذَّوْقِ، فَتَبَايَنَا، فَلَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَلِكَ نَظِيرٌ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، إِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي تَشْبِيهِهِمْ بَعْضَ ثَمَرِ الْجَنَّةِ بِبَعْضٍ. وَتِلْكَ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ قَوْلَنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالَ الْقَوْمُ: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} بِقَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. وَيُسْأَلُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ نَظِيرًا لِشَيْءٍ مِمَّا فِي الدُّنْيَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْمَاءُ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ثِمَارِهَا وَأَطْعِمَتِهَا وَأَشْرِبَتِهَا نَظَائِرَ أَسْمَاءِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْهَا؟ فَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا عَرَّفَ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا مَا هُوَ عِنْدَهُ فِي الْجَنَّةِ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ جَائِزٌ، بَلْ هُوَ كَذَلِكَ. قِيلَ: فَمَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ أَلْوَانُ مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ، نَظِيرَ أَلْوَانِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْهُ، بِمَعْنَى الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْأَلْوَانِ، وَإِنْ تَبَايَنَتْ فَتَفَاضَلَتْ بِفَضْلِ حُسْنِ الْمَرْآةِ وَالْمَنْظَرِ، فَكَانَ لِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ وَحُسْنِ الْمَرْآةِ وَالْمَنْظَرِ، خِلَافُ الَّذِي لِمَا فِي الدُّنْيَا مِنْهُ، كَمَا كَانَ جَائِزًا ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُسَمَّيَاتِ بِالْفَضْلِ فِي أَجْسَامِهَا؟ ثُمَّ يُعْكَسُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ، عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لِمَا أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ زَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تُغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تُغَيَّرُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْفَضْلِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ فِي نَحْوِهِ، مِثْلُ الَّذِي لِلْآخَرِ فِي نَحْوِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا نَسْتَجِيزُ التَّشَاغُلَ بِالدَّلَالَةِ عَلَى فَسَادِهِ، لِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِ عُلَمَاءِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَحَسْبُ قَوْلٍ بِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ دَلَالَةً عَلَى خَطَئِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي "لَهُم" عَائِدَتَانِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ اللَّتَانِ فِي "فِيهَا" عَائِدَتَانِ عَلَى الْجَنَّاتِ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ. وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَهِيَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ. يُقَالُ: فُلَانَةٌ زَوْجُ فُلَانٍ وَزَوْجَتُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مُطَهَّرَة" فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُنَّ طُهِّرْنَ مِنْ كُلِّ أَذًى وَقَذًى وَرِيبَةٍ، مِمَّا يَكُونُ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى وَالْأَدْنَاسِ وَالرَّيْبِ وَالْمَكَارِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَحِضْنَ وَلَا يُحْدِثْنَ وَلَا يَتَنَخَّمْنَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}. يَقُولُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قَالَ: لَا يَبُلْنَ وَلَا يَتَغَوَّطْنَ وَلَا يَمْذِيَنَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ- إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: وَلَا يُمْنِينَ وَلَا يَحِضْنَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قَالَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالنُّخَامِ وَالْبُزَاقِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَا يَبُلْنَ وَلَا يَتَغَوَّطْنَ وَلَا يَحِضْنَ وَلَا يَلِدْنَ وَلَا يُمْنِينَ وَلَا يَبْزُقْنَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، إِي وَاللَّهِ مِنَ الْإِثْمِ وَالْأَذَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، قَالَ: طَهَّرَهُنَّ اللَّهُ مَنْ كُلِّ بَوْلٍ وَغَائِطٍ وَقَذَرٍ، وَمِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَالْأَذَى. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قَالَ: الْمُطَهَّرَةُ الَّتِي لَا تَحِيضُ. قَالَ: وَأَزْوَاجُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِمُطَهَّرَةٍ، أَلَّا تُرَاهِنَّ يُدْمَيْنَ وَيَتْرُكْنَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ؟ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَكَذَلِكَ خُلِقَتْ حَوَّاءُ حَتَّى عَصَتْ، فَلَمَّا عَصَتْ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي خَلَقْتُكِ مُطَهَّرَةً وَسَأُدْمِيكِ كَمَا أَدْمَيْتِ هَذِهِ الشَّجَرَةَ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، قَالَ يَقُولُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْحَيْضِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، قَالَ: مِنَ الْحَيْضِ. حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَوْلُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، قَالَ: مِنَ الْوَلَدِ وَالْحَيْضِ وَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الْجَنَّاتِ خَالِدُونَ. وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ مِنْ قَوْلِهِ "وَهُمْ "، عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. وَالْهَاءُ وَالْأَلْفُ فِي" فِيهَا " عَلَى الْجَنَّاتِ. وَخُلُودُهُمْ فِيهَا دَوَامُ بَقَائِهِمْ فِيهَا عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْحَبَرَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي تَأْوِيلِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ- يَعْنِي قَوْلَهُ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وَقَوْلَهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}، الْآيَاتِ الثَّلَاثَ- قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَادٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. قَالَ: هَذَا مَثَّلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلدُّنْيَا، إِنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا سَمِنَتْ مَاتَتْ. وَكَذَلِكَ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ: إِذَا امْتَلَأُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 44]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ- إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا خَلَتْ آجَالُهُمْ وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُمْ، صَارُوا كَالْبَعُوضَةِ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، وَتَمُوتُ إِذَا رَوِيَتْ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ، إِذَا امْتَلَئُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ فَأَهْلَكَهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 44]. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَذْكُرَ مِنْهُ شَيْئًا مَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ. إِنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ قَالَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ: مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْعَنْكَبُوتَ وَالذُّبَابَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ يَذْكُرَانِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. وَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، مَذْهَبًا، غَيْرَ أَنَّ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهَهُ بِالْحَقِّ، مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنَّ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، عَقِيبَ أَمْثَالٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، ضَرْبَهَا لِلْمُنَافِقِينَ، دُونَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ غَيْرِهَا. فَلِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ- أَعْنِي قَوْلَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا}- جَوَابًا لِنَكِيرِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا ضُرِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَحَقُّ وَأُولَى مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لِنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لَنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَلِآلِهَتِهِمْ فِي سَائِرِ السُّوَرِ أَمْثَالٌ مُوَافِقَةُ الْمَعْنَى لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَهُ مَثَلًا إِذْ كَانَ بَعْضُهَا تَمْثِيلًا لِآلِهَتِهِمْ بِالْعَنْكَبُوتِ، وَبَعْضُهَا تَشْبِيهًا لَهَا فِي الضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ بِالذُّبَابِ. وَلَيْسَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَّ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ فِي الْحَقِّ مِنَ الْأَمْثَالِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، ابْتِلَاءً بِذَلِكَ عِبَادَهُ وَاخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ، لِيُمَيِّزَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ بِهِ، إِضْلَالًا مِنْهُ بِهِ لِقَوْمٍ، وَهِدَايَةً مِنْهُ بِهِ لِآخَرِينَ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً}، يَعْنِي الْأَمْثَالَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا، يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ بِهَا وَيُضِلُّ بِهَا الْفَاسِقِينَ. يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَعْرِفُهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمَثَلِهِ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:- لَا أَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَصَدَ الْخَبَرَ عَنْ عَيْنِ الْبَعُوضَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَا، وَلَكِنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ أَضْعَفَ الْخَلْقِ- كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: الْبَعُوضَةُ أَضْعَفُ مَا خَلَقَ اللَّهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِنَحْوِهِ. خَصَّهَا اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّةِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ أَقَلَّ الْأَمْثَالِ فِي الْحَقِّ وَأَحْقَرَهَا وَأَعْلَاهَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فِي الِارْتِفَاعِ، جَوَابًا مِنْهُ جَلَّ ذَكَرُهُ لِمَنْ أَنْكَرَ مِنْ مُنَافِقِي خَلْقِهِ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْمَثَلِ بِمُوقِدِ النَّارِ وَالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ، عَلَى مَا نَعَتَهُمَا بِهِ مِنْ نَعْتِهِمَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَأَيْنَ ذِكْرُ نَكِيرِ الْمُنَافِقِينَ الْأَمْثَالَ الَّتِي وَصَفْتَ، الَّذِي هَذَا الْخَبَرُ جَوَابُهُ، فَنَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَا قُلْتَ؟ قِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ": {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. وَإِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمَ الْأَمْثَالَ فِي الْآيَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ- اللَّتَيْنِ مَثَّلَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مُقِيمُونَ فِيهِمَا، بِمُوقِدِ النَّارِ وَبِالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ، عَلَى مَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا}- قَدْ أَنْكَرُوا الْمَثَلَ وَقَالُوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} فَأَوْضَحَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَطَّأَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَقَبَّحَ لَهُمْ مَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِحُكْمِهِمْ فِي قِيْلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْهُ، وَأَنَّهُ ضَلَالٌ وَفُسُوقٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ وَالْهُدَى مَا قَالَهُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ مَا قَالُوهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي}، فَإِنَّ بَعْضَ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ كَانَ يَتَأَوَّلُ مَعْنَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي}: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 37]، وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَتَسْتَحِي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحِيَهُ- فَيَقُولُ: الِاسْتِحْيَاءُ بِمَعْنَى الْخَشْيَةِ، وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا}، فَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ وَيَصِفَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [سُورَةُ الرُّومِ: 28]، بِمَعْنَى وَصْفٍ لَكُمْ، وَكَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ: وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ *** لَأَسْدَاسٍ، عَسَى أَنْ لَا تَكُونَا بِمَعْنَى: وَصْفِ أَخْمَاسٍ. وَالْمَثَلُ: الشَّبَهُ، يُقَالُ: هَذَا مَثَلُ هَذَا وَمِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: شُبَهُهُ وَشِبْهُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا *** وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الأَبَاطِيلُ يَعْنِي شَبَهًا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا}: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى أَنْ يَصِفَ شَبَهًا لِمَا شَبَّهَ بِهِ. وَأَمَّا "مَا" الَّتِي مَعَ "مَثَلٍ "، فَإِنَّهَا بِمَعْنَى" الَّذِي "، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ فَمَا فَوْقَهَا- مَثَلًا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَا قُلْتَ، فَمَا وَجْهُ نَصْبِ الْبَعُوضَةِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ، فَالْبَعُوضَةُ عَلَى قَوْلِكَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ؟ فَأَنَّى أَتَاهَا النَّصْبُ؟ قِيلَ: أَتَاهَا النَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ "مَا" لَمَّا كَانَتْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ " يَضْرِبُ "، وَكَانَتَ الْبَعُوضَةُ لَهَا صِلَةٌ، عُرِّبَتْ بِتَعْرِيبِهَا فَأَلْزَمَتْ إِعْرَابَهَا، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: وَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا *** حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا فَعُرِّبَتْ "غَيْر" بِإِعْرَابِ "مِنْ ". وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ خَاصَّةً فِي" مِنْ " وَ" مَا "، تُعْرِبُ صِلَاتُهُمَا بِإِعْرَابِهِمَا، لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مَعْرِفَةً أَحْيَانًا، وَنَكِرَةً أَحْيَانًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ، فَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا، ثُمَّ حَذَفَ ذِكْرَ "بَيْن" وَ" إِلَى "، إِذْ كَانَ فِي نَصْبِ الْبَعُوضَةِ وَدُخُولِ الْفَاءِ فِي "مَا" الثَّانِيَةِ، دَلَالَةٌ عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: "مُطِرْنَا مَا زُبَالَةَ فَالثَعْلَبِيَّة" وَ" لَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا "، وَ" هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ مَا قَرْنًا فَقَدَمًا "، يَعْنُونَ: مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَى قَدَمِهَا. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَا حَسُنَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ دُخُولُ: "مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا "، يَنْصِبُونَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، لِيَدُلَّ النَّصْبُ فِيهِمَا عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنَ الْكَلَامِ. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: " مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ". وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ "مَا" الَّتِي مَعَ الْمَثَلِ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ بَعُوضَةً مَثَلًا فَمَا فَوْقَهَا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ "بَعُوضَة" مَنْصُوبَةً بِـ "يَضْرِبُ "، وَأَنْ تَكُون" مَا "الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي" فَمَا فَوْقَهَا "مَعْطُوفَةً عَلَى الْبَعُوضَةِ لَا عَلَى" مَا ". وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ {فَمَا فَوْقَهَا}: فَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا- عِنْدِي- لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّ الْبَعُوضَةَ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ، فَإِذْ كَانَتْ أَضْعَفَ خَلْقِ اللَّهِ فَهِيَ نِهَايَةٌ فِي الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ. وَإِذْ كَانَتْ كَذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا فَوْقَ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ، لَا يَكُونُ إِلَّا أَقْوَى مِنْهُ. فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى- عَلَى مَا قَالَاهُ- فَمَا فَوْقَهَا فِي الْعِظَمِ وَالْكِبَرِ، إِذْ كَانَتَ الْبَعُوضَةُ نِهَايَةً فِي الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَمَا فَوْقَهَا}، فِي الصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ. كَمَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ يُذَكِّرُهُ الذَّاكِرُ فَيَصِفُهُ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ، فَيَقُولُ السَّامِعُ: " نَعَمْ، وَفَوْقَ ذَاكَ "، يَعْنِي فَوْقَ الَّذِي وَصَفَ فِي الشُّحِّ وَاللُّؤْمِ، وَهَذَا قَوْلٌ خِلَافُ تَأْوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ تُرْتَضَى مَعْرِفَتُهُمْ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا، بِمَا وَصَفْنَا، أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَصِفَ شَبَهًا لِمَا شَبَّهَ بِهِ الَّذِي هُوَ مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَ الْبَعُوضَةِ. فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ لَوْ رُفِعَتِ الْبَعُوضَةُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي " مَا "، إِلَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ تَكُونَ اسْمًا، لَا صِلَةً بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، فَأَمَّا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}. يَعْنِي: فَيَعْرِفُونَ أَنَّ الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ، لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ، مَثَلٌ. كَمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ. وَكَمَا حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلَامُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، يَعْنِي الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ، وَأَنْكَرُوا مَا عَرَفُوا، وَسَتَرُوا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ، وَذَلِكَ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ- وَمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ وَشُرَكَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ- بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَقُولُونَ: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ الَّذِي:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الْآيَةَ، قَالَ: يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ بِهَا، وَيَضِلُّ بِهَا الْفَاسِقُونَ. يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَعْرِفُهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}، مَا الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ مَثَلًا. "فَذًّا "، الَّذِي مَع" مَا "، فِي مَعْنَى " الَّذِي "، وَأَرَادَ صِلَتَهُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَثَلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا}، يُضِلُّ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا مِنْ خَلْقِهِ. وَالْهَاءُ فِي "بِه" مِنْ ذِكْرِ الْمَثَلِ. وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُبْتَدَأٌ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ:- كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ. فَيَزِيدُ هَؤُلَاءِ ضَلَالًا إِلَى ضَلَالِهِمْ، لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ، وَأَنَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ مُوَافِقٌ. فَذَلِكَ إِضْلَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهِ. {وَيَهْدِي بِهِ}، يَعْنِي بِالْمَثَلِ، كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، فَيَزِيدُهُمْ هُدًى إِلَى هُدَاهُمْ وَإِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ. لِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا أَنَّهُ مُوَافِقٌ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا وَإِقْرَارِهِمْ بِهِ. وَذَلِكَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَثَلٍ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، يَضِلُّ بِهِ هَذَا وَيَهْدِي بِهِ هَذَا. ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}. وَفِيمَا فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ- مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}- مَا يُنَبِّئُ عَنْ أَنَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَذَلِكَ، مُبْتَدَأٌ- أَعْنِي قَوْلَهُ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَحَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، فَسَقُوا فَأَضَلَّهُمُ اللَّهُ عَلَى فِسْقِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، هُمْ أَهْلُ النِّفَاقِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصِلُ الْفِسْقَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخُرُوجُ عَنِ الشَّيْءِ. يُقَالُ مِنْهُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتَ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً، لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرِهَا، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ سُمِّيَا فَاسِقَيْنِ، لِخُرُوجِهِمَا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمَا. وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 50]، يَعْنِي بِهِ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَّيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 59]، أَيْ بِمَا بَعُدُوا عَنْ أَمْرِي. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، وَمَا يَضِلُّ اللَّهُ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبُهُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالنِّفَاقِ، إِلَّا الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَالتَّارِكِينَ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، مَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَهْلِ الضَّلَالِ مَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ.
|